الثورة والأرض والمخيال الشعبي شكلوا وعيه السينمائي لخضر حمينة.. البحث عن صورة في الذاكرة

مهدي براشد
على الرغم من أن محمد لخضر حمينه عرف حياة متنقلة، منذ شبابه، سواء بسبب ظروف الثورة التحريرية التي جعلتها يتنقل من الجزائر إلى فرنسا للدراسة، ثم إلى تونس بعد أن اختار العصيان حين استدعوه للخدمة العسكرية، ثم إلى تشيكوسلوفاكيا التي أرسلته إليها الحكومة المؤقتة لدراسة السينما، ثم ما أتاحته له السينما بعد استقلال الجزائر من فرص رؤية العالم، إلا أن حمينة بقي وفيا للمسيلة مسقط رأسه ذات 26 فبراير 1934، التي صور فيها العديد من أفلامه.
يكاد يبدو لنا أن محمد لا يرى السينما إلا من خلال تلك النافذة التي يطل منها على ذاكرة مرحلة تشكل الوعي لديه، ليس الوعي السينمائي، بل وعيه بالحياة عامة، هذا الوعي الذي سيحدد وعيه السينمائي ومساره كله.
فباستثناء فيلم “رياح رملية” (1982) الذي ترشح لنيل جائزة مهرجان كان 1982. واختير للحصول على جائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية في حفل توزيع جوائز الأوسكار الخامس والخمسون، سيطرت الثورة التحريرية وإرهاصاتها، بكل ذاكرتها، على المنجز السنيمائي للمخرج لخضر حمينة، بدءا من ريح الأوراس (1966) الذي حاز جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان، مرورا بـ “حسان طيرو” (1968) و”ديسمبر” (1973، وصولا إلى “وقائع سنين الجمر” (1975) الذي افتك أول سعفة ذهبية في السينما العربية والإفريقية، والأمر نفسه بالنسبة إلى “سنوات التويست المجنونة” و”الصورة الأخيرة” (1986)، وأخيرا “غروب الظلال” (2014).
أغلب أفلام لخضر حامينة كانت عن ذاكرة الثورة التحريرية وذاكرتها. قد يكون للفترة التي قضاها حمينة في تونس وتصويره لعدد من الربورتاجات عن الثورة دور في هذه المكانة التي تحتلها الثورة التحريرية في ذهنية فتى كان عمره 20 سنة حين اندلعت، لكن أفلام حمينة لم تتعرض إلى الثورة التحريرية من منظور ثوري صرف يوافق السردية الرسمية عنها بعد الاستقلال، مثلما نجد في العديد من الأفلام الثورية التي أنجزت.
يقول الناقد السينمائي الأستاذ أحمد بجاوي، وهو يتحدث عن فيلم “ريح الأوراس”: “لم يكن فيلما يبني الرواية الرسمية، فلخضر حمينة كان دائما حريصا على أن يحافظ على مساحته بالنظر إلى الخطاب الرسمي. لم يكن ضد الخطاب الرسمي، لكنه كان على هامشه”.
ذاكرة الثورة التحريرية في سينما لخضر حامينه كانت دائما معجونة بالذاكرة الكلية له، بشكل لا يمكن أن نفصل أشياءها عن بعضها (الأرض، المرأة، الثورة، المكان، الثقافة). لذلك فهو في فيلم “وقائع سنين الجمر” لم يكن – مثلما يصر على تأكيده حمينة: “لم أرد توجيه رسالة، بل حاولت أن أروي فترة من حياتي ومن حياة الجزائريين ككل من 1939-1954”.
لذلك حين يريد لخضر حمينة أن يحدد الفترة الزمنية التي تجري فيها أحداث قصة الفيلم (ما بين بداية الحرب العالمية الثانية واندلاع ثورة التحرير) لا يلجأ إلى معالم في التاريخ الرسمي لتحديدها، وإن لجأ إليها من خلال تصوير صفوف المجندين الجزائريين إلى الحرب فلا يكتفي بها، بل يستعيد أحداثا حفرت معالم في الذاكرة وشكلت الوعي الجمعي للناس وصنعت مخيالهم، من قبيل وباء التيفوس (1941) الذي اجتاح القرية، مثلما اجتاح أغلب البلاد، وفتك بأهلها وهم محاصرون في بيوتهم لا يغادرونها، فتحول الحدث إلى تأريخ يؤرخ به الجزائريون تحت وطأة الاحتلال أيامهم “قبل عام التيفوس”، بعد “عام التيفوس”، العام الذي يسميه لخضر حمينة “عام الشاريطة”، إحالة إلى ما علق بذاكرته من تلك الأيام حين كان ضحايا وباء التيفوس ينقلون على عربة يجرها حمار عام 1941.
يبدأ فيلم “وقائع سنين الجمر” بركب من القبيلتين حاملين “السناجق” (رايات الطريقة) إلى الولي الصالح من أجل إنزال المطر، من أفق الرمال، ركب يتقدم على إيقاع موسيقى تفتح الفيلم على الثقافة التي يصر المخرج لخضر حامينه أن يقول إنه ينتمي إليها، وكذلك يفعل مع فيلم “ريح رملية” الذي يجعل لخضر حامينه عتبته بموكب العروس إلى بيت زوجها تظهر مشارفه من أفق الرمال أيضا. وفي كلا المشهدين، لا يعبأ لخضر حامينه بما يتضمنه هذان الموكبان الطقوسيان من خرافة، فما يهمه هو استحضار هذه الاحتفالية العالقة بذاكرته وإبرازها كما هي في شاشة كبيرة. كأنها وسيلة منه لتأكيد انتمائه إلى هذه الذاكرة الشعبية بل ووسيلة للاطمئنان على تلك الفترة من حياته التي، ربما لم يبرحها ولا يريد أن يبرحها.
ولا يكتفي لخضر حامينه بهذه المشاهد الشعبية، بل يتعداها إلى استحضار شخوصها، وأهم شخوصها هو درويش القرية، بريئها وحكيمها وصلتها بالعوالم الخفية الذي “يعطي الكلام”، فيقول الحقيقة.
ودرويش القرية في “وقائع سنين الجمر” هو الميلود الذي لا يبرحه الطفل الصغير يصرخ في ساحة القرية: “هاو، راهو جاء، البوسطا كل يوم تجيب الناس فيه المليج وفيه الحاير وفيه غليظ الراس، فيه النحل اللي يولدوا العسل، وفيه الذبابه اللي على الدم تحصل، اليوم راه لحق بوزنزل اللي شوكته ما تنسل، ياو نطلب ربي تموتوا ويفيقكم ربي يا غنم”.
وهو في “ريح رملية” عمي عباس (حيمود ابراهيمي)، ينصح الشاب المغني: “نفرز المقصود اللي جابك وانت ما علابالكش، غاشينا راهو مدبدب، وسواسو مسوس، تمرمدت لرياح وشدايد شطاطها سكنت في الأمخاخ. النخله انسخطت وتشوطت، هرب منها الصلاح، القلوب الفاسده لا تصحاح. يا مظنوني ابياتك صبحوا بلا بيت.. راك غالط يا كبدي ما بيهم الفن اللي تلبس بيه، بهم الكلام اللي جبته وبلا سبه تتعرى بيه”.
هكذا هي الذاكرة وأشيائها لدى لخضر حامينه، محركه الأساسي في البحث عن الصورة الصورة، لذلك، وعلى الرغم من أن تكوينه السينمائي تكوين تقني، فقد تنقل إلى تشيكوسلوفاكيا لدراسة الصورة، إلا أن “عبقريته في تأطير الصورة”، كما يصفه الناقد السينمائي أحمد بجاوي، لم تتأت له من إمكانياته التقنية بالقدر الذي تأتت له من حسه المرهف في البحث عن صورة موجودة لديه سلفا في الذاكرة، ما أن يعتر عليها حتى يلتقطها ويركز عليها، لذلك يحدث أن يقدم الصورة نفسها في مشهدين مختلفين وفيلمين مختلفين، كما فعلها مع صورة الأم عالقة في الأسلاك الشائكة المكهربة وتسلم روحها لبارئها في فيلم “ريح الجنوب”، وصورة المرأة عالقة في عمود تعليق الشكوة لتضع حملها.