الأخضر حمينة: الدلالات الجمالية والسياسية

كلما جاء ذكر اسم المخرج الجزائري الكبير محمد الأخضر حمينة إلا وحمل ذكره صورة السينما الجزائرية الجديدة وهي على منصة التكريم في أعلى مراتبه من خلال فيلمه “وقائع سنين الجمر” الذي حصل على جائزة السعفة الذهبية العام 1975 في مهرجان كان الدولي في دورته ال 28.
الواقع إن صورة الأخضر حمينة أوسع من هذا التكريم.
فلسفيا، تحمل صورة الأخضر حمينة كمخرج سينمائي صورة المبدع الجزائري المنتصر الذي ينتمي إلى زمن الدولة الوطنية، المبدع المنتصر بقوة جمال الصورة الناعمة، وهو انتصار مضاعف لأن موضوع الفيلم المتوج “وقائع سنين الجمر” مرتبط بالثورة الجزائرية.
سياسيا، بعد الاستقلال، حيث بدأت ركائز الدولة الوطنية تتكرس في السبعينات وجدت الجزائر نفسها سياسيا، وبالأساس بعد الانقلاب العسكري على الرئيس أحمد بن بلة في 19 جوان 1965، بحاجة إلى تسويق صورة جديدة عنها، صورة مرتبطة بالدولة الوطنية الناشئة والمعاصرة، صورة الجزائر الثقافية، فكان الجواب في السينما وفي شخصية الأخضر حمينة بالأساس من خلال فيلمه “ريح الأوراس” 1966 الذي حصل على جائزة الفيلم الأول في مهرجان كان، وبعدها فيلم “وقائع سنين الجمر” المتوج بالسعفة الذهبية في ذات المهرجان 1975. كانت السينما طريقا لفك الحصار عن الجزائر وربط صورتها الجديدة بالإبداع وبالمبدعين.
رمزيا، لم تعد صورة الجزائري في مخيال الغربي والإفريقي تلك المرتبطة فقط بعبقرية الحرب التحريرية، بل ها هي تصنع لها منحوتة جديدة تتصل بالجمال في أرقى درجاته: السينما، لقد غير الأخضر حمينة الخطاب الغربي عن الجزائر بعد 19 جوان 1965.
فالجزائر التي وصفت بأنها “مكة الثوار”، أصبحت أيضا فضاء جديدا لتجربة فريدة تختلف عن التجارب المغاربية والعربية في باب السينما، وبالأساس من خلال أفلام الأخضر حمينة وأحمد راشدي ومحمد سليم رياض والأمين مرباح وعبد الغزيز طولبي ومرزاق علواش.
اقتصاديا، كثيرا ما نسمع بأن السينما هي صناعة ثقيلة، تتطلب رأسمالا كبيرا وشبكة علاقات أخطبوطية عالمية، وهذا الكلام لا يشذ عن الحقيقة، لكن الأخضر حمينة جاء ليقول لنا، من خلال أفلامه، إننا نستطيع أن نخلق المفاجأة ونحن خارج هذه اللعبة الرأسمالية الهمجية، فكان فيلم “ريح الأوراس” و”وقائع سنين الجمر”.
فنيا، على الرغم من ثقافة الأخضر حامينا السينمائية المعقدة، وهو القادر على تفكيك المدارس الفنية للسينما العالمية، الأوروبية والأمريكية والأسيوية، إلا أن حمينة جاء ليدافع عن فلسفة “البساطة”، البساطة العميقة، بساطة لا يمكن إدراكها أو القبض عليها بسهولة، إنها السهل الممتنع كما يقول نقاد الأدب، فأن تؤسس لسينما البساطة في زمن يذهب للتعقيد تلك مغامرة فنية ليست بالهينة، وقد تبناها الأخضر حمينة ليس عن سذاجة ولكن على أساس فلسفي مدروس ورؤية جمالية متكاملة، وحقق نجاحا مدهشا في هذه المقاربة.
جسر جديد: دشن الأخضر حمينة في مسيرته السينمائية تقليدا إبداعيا مهما، ألا وهو مد الجسور ما بين مكونات الأنتلجانسيا الوطنية الإبداعية الجزائرية, من هنا كلما ذكر اسم الأخضر حمينة منتصرا سينمائيا إلا وذكر مقرونا بالروائي رشيد بوجدرة الذي كتب سيناريو فيلم “وقائع سنين الجمر”.
كان هذا التتويج بالسعفة الذهبية صورة مثلى لدرس ثقافي إبداعي مهم، وهو ضرورة تعامل رجال السينما مع رجال الأدب، فوجود اسمين كبيرين أحدهما في السينما والثاني في الرواية، لا يمكنه إلا أن يضمن مسبقا نسبة من فرص النجاح.
وفي خلفية هذا التعامل بين الأخضر حامينا ورشيد بوجدرة، وهذا النجاح الذي حققته القوة الناعمة، نكتشف درسا بليغا للسينمائيين الجدد المتمثل في التذكير بأن الأعمال السينمائية كلما اعتمدت نصا روائيا كبيرا فإن نصيبا من رأسمال النجاح ممكنة جدا، بطبيعة الحال نحن نعرف أن العمل السينمائي (الإخراج) هو عالم خاص له شروطه وعالم الرواية منفصل وله شروطه الجمالية الأخرى.
هذا الانتصار السينمائي الجزائري في سنوات السبعينات يبين لنا أيضا أن المخرج السينمائي كلما كان قارئا للأدب الكبير، وبالأساس الرواية لما فيها من تقنيات التركيب واللقطات والخيال فإن ذلك يشكل طاقة كبيرة للمخرج، يمنح أجنحة جديدة لمخياله، وهو ما تؤكده كثير من الأفلام العالمية الناجحة اقتصاديا وجماليا وأيديولوجيا التي اعتمدت نصوصا روائية كبيرة منها اقتبست سيناريوهاتها.
جرس: اليوم ما هو مطلوب من صناع الجيل الجديد ثقافيا وإبداعيا، وبالأساس وزارة التربية الوطنية ووزارة التعليم العالي في الجزائر، هو تنظيم محترفات وأوراش سينمائية للتلاميذ وللطلاب يكون منشطوها وضيوفها من الأسماء الوازنة من أمثال الأخضر حمينة وأحمد راشدي ومرزاق علواش وبلقاسم حجاج ورشيد بنعلال ورشيد بوشارب ورشيد بن حاج ومحمد حازورلي وجعفر قاسم والأمين مرباح وعبد الكريم بهلول وياسمين شويخ وسعيد ولد خليفة وغيرهم، حتى يعرف هذا الجيل الجديد هذه القمم الإبداعية التي أنجبتها بلادنا.
لقد حان الوقت أيضا لتقديم كتب شبه مدرسية للتلاميذ تعرض فيها سير المخرجين السينمائيين الموسيقيين والأدباء الكبار الذين شرفوا الجزائر في المحافل الدولية، وهو ما قد يحرك طاقة التفاؤل والحلم عند الجيل الجديد المصاب بمرض الكآبة الثقافية والمعرض يوميا للانتحار المعنوي والفعلي.
بقلم: أمين الزاوي